Telegram Group Search
388

جلسة الصفا

10 شوال 1445
19 نيسان 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*المفهوم المشوه للعبادة*

ها قد انقضى شهر رمضان ، وأكرمنا الله تعالى فيه بالصيام والقيام وتلاوة القرآن

ولكن ما أن انقضت أيام هذا الشهر حتى انفضَّ الناس أو كثيرٌ منهم من المساجد، فخلت المساجد منهم في صلاة الفجر وفي صلوات الجماعة، ورجع بعضهم أو كثير منهم إلى ما كان عليه قبل رمضان من مجالس اللهو والعبث والرفث .

وقد تبيَّن أن ثمة مفهوماً مشوها للعبادة، وذلك من خلال بعض المظاهر،
من ذلك ما ظهر من بعض النساء اللواتي كن في صلاة قيام الليل والتهجد يلبسن لباس الصلاة الساتر لجسم المرأة، حتى إذا انقضت الصلاة، خلعن لباس الصلاة السابغ فظهرن بثيابهن المتبرجة، وزينتهن الظاهرة، ولا تتورع إحداهن عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع الحكيم من سفور وزينة أو اختلاط وغير ذلك.

وكذلك الحال عند بعض الرجال، عاد بعد رمضان إلى ما كان عليه من العادات السيئة والأخلاق المنكرة، فلا يتورع عن مجالس اللهو وسهرات العبث مقرونة بما نهى الشرع عنه من الأراكيل والدخان وغير ذلك من الغيبة والنميمة، ولا يتورع في تجارته عن الغش في البيع والشراء، ولا في أي عمل من الأعمال من الالتزام بأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه . فالعبادة عند هؤلاء عباءة تلبس في وقت ما، ثم تخلع بعد ذلك.
إن المفهوم المشوه للعبادة أن يُظَن أن العبادة محصورة في إقامة هذه الشعائر من الصلاة وقيام الليل والتهجد والصيام، وأن يُظن أن من أتى بهذه الشعائر فقد استكمل دينه وأتى بالعبادة بحذافيرها، وأن ما سوى ذلك من جوانب الحياة ومجالاتها العديدة، فالأمر يعود فيها لما جرت عليه العادات والأهواء وما تعارف عليه الناس، ولو كان متناقضاً مع المنهج الرباني المسطور في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ، ويقنعون أنفسهم بأنهم قضوا جميع ما عليهم من الواجبات الدينية من خلال صيام هذه الأيام المعدودات وقيام لياليها أو بعضها

وقد يؤدون هذه الشعائر بأية صورة كانت، ولو كان أداءً آلياً بغير روح ، فالصيام عندهم كان صياماً عن الطعام والشراب، ولم يكن صياماً عن قول الزور والعمل به، وعن الصخب والغضب والرفث.

والصلاة عندهم كانت مجرد حركات بلا خشوع ولا تدبر لما يتلى من آيات القرآن الكريم.

والحج عندهم بأداء مناسكه ولو لم تدرك معانيها ومقاصدها وغاياتها، وفي بعض الأحوال يكون بعضهم حريصاً على أن يكون حجه في غاية الترف والرفاهية، ولو أنفق الملايين المُمَلْيَنة، مع أن أخاه أوقريبه بائسٌ ومحتاجٌ ومسكين، ولا استعداد عنده لتحمل أدنى مشقة أو تعب، كما يقال حج VIP، ورأينا من ذلك صوراً تؤلم القلب ويُندى لها الجبين، وهذا يحتاج إلى بحث خاص لنعلم كيف كانت حجة النبي ﷺ وكيف حج الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم.

المهم أن بعض الناس يظن أن العبادة قاصرة على أداء هذه الشعائر ومحصورة في رحاب المسجد، وما سوى ذلك فلا علاقة للدين به، ولا صلة للعبادة به، فهم يقولون: ما للدين وحجاب المرأة؟؟!، وما للدين والمعاملات التجارية، وما للدين والصناعات، وما للدين والاقتصاد بشكل عام، وما للدين والإعلام، وما للدين والعادات الاجتماعية، إلى آخر هذا الهذيان والتحريف في حقيقة الدين والتشويه في مفهوم العبادة التي أمر الله تعالى بها.

إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيِّهم سيدنا شعيب عليه السلام، بعد أن دعاهم إلى عبادة الله تعالى:
قالُوا يا شُعَيْبُ أصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أوْ أنْ نَفْعَلَ في أمْوالِنا ما نَشاءُ
هم يقولون: يا شعيب ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية وفي عاداتنا واتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون؟؟!!!.
فالذي يجب أن يُعلم أن العبادة الحقة ليست محصورة في أداء الشعائر من صيام أيام معدودات وصلوات محدودات.

إن العبادة الحقة التي أمرالله تعالى بها ، هي الالتزام الكامل بالمنهج الرباني في جميع جوانب الحياة، وذلك وفق ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ، هي في التخلق بالأخلاق الحسنة وفي التورع عن المال الحرام، وعن أكل أموال الناس بالباطل، وفي صلة الرحم وبر الوالدين والإحسان إليهم وفي صدق الحديث وترك الفواحش، إلى آخر ما أوصى به الله تعالى ورسوله.
قال أحد كبار العلماء:
العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وتشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعها، وتستغرقُ مناشطه وأعماله كافة.
فلا يوجد شأن من شؤون الإنسان إلا وللدين فيه حكم وتوجيه وإرشاد، كما قال تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.

قال الحافظ ابن رجب: الدين القويم يشمل فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها.
والأدلة على شمول العبادة للحياة كلها وأنها ليست مقتصرة على أداء الشعائر، عديدة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.
من ذلك أن الله تعالى لما ذكر الصيام المؤقت عن المباحات في قوله تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ
وبعد أن ذكر أحكام الصيام، انتقل بعد ذلك مباشرة إلى أحكام الحياة العامة، فقال تعالى:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

وفي آية أخرى قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
وقوله في السلم، أي : في الإسلام، قال امرؤ القيس بن عابس:
فلست مبدلا بالله ربا...ولا مستبدلا بالسلم ديناً
وقال الشاعر الكندي:
دعوت عشيرتي للسلم لما....رأيتهم تولوا معرضينا.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ولا يدعوا منها شيئاً.
ثم قال تعالى بعد هذه الآية:
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قال ابن كثير:
أي إن عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله عزيز أي في انتقامه، لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب، حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

ومن الأحاديث النبوية التي تُبيِّن أن أداء الشعائر وحدها لا يكفي، وليست هي العبادة الشاملة، وأنه لا بد من التزام المنهج الرباني في الأخلاق والسلوك، ما رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قيل للنبي ﷺ: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتتصدق، لكن تؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله ﷺ: لا خير فيها، هي من أهل النار.
ويدل على ذلك حديث آخر رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال:
* أتدرون من المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة(يعني أتى بالشعائر)، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طرح في النار*
هذا الرجل فهم أن العبادة هي في أداء هذه الشعائر فقط، وتفلَّت بعد ذلك من بقية أحكام الإسلام،
وهذه الشعائر أصلا هي لتقوية المرء على التمسك بمنهج الله تعالى، ولإعانته على الالتزام الدائم بشرع الله تعالى، فالصيام: لعلكم تتقون، والصلاة: تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذه الشعائر روافد للمسلم لمزيد من التمسك بالعبادة بمعناها الشامل، وإلا فإنها لا تنفع صاحبها على الإطلاق.

هذا المفهوم الصحيح للعبادة أشار إليه سيدنا عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه حين قال: لا تغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن أنظروا من إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا أشفى ورع ، أي إذا أشرف على الدنيا وأقبلت عليه تورَّع عما لا يحل له منها، أو إذا هم بالمعصية تورع فلم يقع بها

وروى الإمام مالك في الموطأ أن رجلاً من جهينة يقال له: الأسيفع كان يسبق الحجاج، فيشتري الرواحل، فيغلي بها الثمن، ثم يسرع السير، فيسبق الحجاج، فأفلس، فرُفِعَ أمره إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: أما بعد، أيها الناس، فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحجاج، فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين الغرماء، ثم قال: *لا تغرنكم طنطنة الرجل بالليل يعني: صلاته في الليل، فإن الرجل كل الرجل، من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، ومن سلم المسلمون من لسانه ويده.

وكلنا يعلم قصة من جاء يزكي رجلاً أتاه ليشهد على قضية، فقال له عمر: ائت بمن يعرفك، فجاء برجل، فقال له: هل تزكيه هل عرفته، قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟، قال: لا، قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بها أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، قال عمر: فلعلك رأيته في المسجد راكعاً ساجداً فجئت تزكيه؟؟، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر: اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل، ائتني برجل يعرفك، فهذا لا يعرفك.
هذا يُظهر أن تدينك لا يعرف من وجودك في المسجد، إنما يعرف وأنت في السوق في متجرك في بيعك وشرائك تنصح الناس وترفق بهم، ولا تأكل الربا والمال الحرام.
يعرف تدينك وأنت في عيادتك ترأف بمرضاك وتصدق في معالجتهم وتشخيص مرضهم و تقدير ظروفهم.

يعرف تدينك وأنت في مكتبك تعامل الناس بالخلق الحسن وبالصدق.

يعرف تدينك في بيتك في معاملة أهلك باللطف والمعروف والإحسان.

يعرف تدينك وأنت في منصبك ومحل مسؤوليتك ترأف بالناس وتقضي حوائجهم.

هذه هي العبادة الحقة بمعناها الشامل للحياة بجميع فروعها وتفاصيلها.

اللهم اجعلنا من الصادقين في عبادتنا لك والفاهمين لحقيقتها والواعين لشموليتها، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
389


جلسة الصفا

17 شوال 1445
26 نيسان 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*خطر تشويه عبادة الحج والانحراف عن مقاصدها*

الحج من أعظم العبادات، وقد كان آخر أركان الإسلام فريضة، وذلك بعد أن انقادت النفوس لله تعالى ، واستجابت لأوامره ، وخضعت لأحكامه وتشريعاته ،وتخلصت من شوائب الشرك .

ولذلك كانت عبادة الحج تمثل التوحيد الخالص لله تعالى، وتمثل كذلك التجرد عن مظاهر الدنيا والانعتاق من زينتها وزخرفها، والإقبال بلهفة وشوق لأداء هذه الشعيرة العظيمة والطواف حول البيت بحب وهيام، وتحققت فيه دعوة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام حين قال:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

ولكي تكون هذه العبادة تعلقاً تاماً بالله عز وجل وتطلعاً خالصاُ إلى مغفرته ومرضاته، ولكي لا يعكر صفو هذه العبادة التفات القلب إلى الدنيا بمظاهرها المتعددة وبهرجاتها المختلفة، فقد تميَّزت عبادة الحج بأحكام تجعل الحاج يعيش معاني التوجه الى الله تعالى وحده ، وتضعه في حالة تعينه على تعلُّق قلبه بالله تعالى دون سواه، ومن غير أن تشوش على عبادته زخارف الدنيا وزينتها ومتاعها.

من ذلك أن الله تعالى لم يجعل الحج إلى مكان فيه جنات وروضات وبساتين وأنهار ، تلفت الأنظار وتشغل القلب عن التفكر والاعتبار، إنما جعله إلى واد غير ذي زرع، أي لا يصلح للزرع، وذلك لكي يكون التوجه إلى الله تعالى وحده دون ملهيات أو مغريات دنيوية تصرف القلب عن الله تعالى.

ومن ذلك أن من أركان الحج الإحرام، وهو أن يخلع الرجل المخيط من الثياب ويكتفي بلبس الرداء وإلازار الذي يستر العورة، وفي لباس الإحرام هذا تزول الفوارق بين الناس ، ويلغى التفاوت بين الطبقات، فلا شريف ولا وضيع ولا غني ولا فقير، ويستوي الضابط الكبير والجندي، والكل سواسية كأسنان المشط،

ويقتضي الإحرام بعد خلع المحيط من الثياب، اجتناب كل ما فيه ترفيه وترف فلا يجوز مسُّ الطيب ولا قص الشعر ولا تقليم الأظافر، وهذا يستوي فيه الرجال والنساء.

إذن الحال التي ينبغي أن يكون عليها الحاج، هي التجرد من المظاهر الدنيوية وترك الاقتراب منها، والتفرغ التام للتوجه إلى الله تعالى وحده، وقلبه ولسانه يردد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

وفي عبادة الحج أمر الله تعالى ألا يتميَّز أحد على أحد، فالكل في مظهرهم وملبسهم سواء وكلهم في مكان واحد وعلى صعيد واحد هو صعيد عرفة،
وقد كانت قريش، قبل الإسلام لأنفتها لا تقف في عرفات لأن عرفة هي خارج الحرم ويقولون: نحن ولاة البيت وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، لذلك كان يقفون في مزدلفة وهي من الحرم، وينتظرون الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة، فيفيضون معهم، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يأتي عرفة ويقف فيها ثم يفيض منها، وأمر قريشا بذلك، فقال تعالى:
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)

أراد الله تعالى أن يكون الناس في الحج سواءً، في وقوفهم في عرفات و في إحرامهم وفي ترك الترفه وزخارف الدنيا.

إذ الحج عبادة كما أنها تمثل التوحيد الخالص لله تعالى، تمثل كذلك التواضع والتذلل والمسكنة لله عز وجل والتجرد من حظوظ الدنيا.

ولتأكيد هذا التواضع والتذلل لله تعالى في الحج، لم يحج النبي ﷺ في مواكب فاخرة وخيول فارهة، إنما حجَّ فيما رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، وقال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، (والرحل للبعير هو كالسرج للفرس، والقطيفة قطعة قماش أو ثياب توضع فوق الرحل ليكون أكثر ليونة عند الركب عليه).

ومع أن هذه الراحلة كانت في غاية التواضع، دعا النبي ﷺ الله تعالى أن يجعلها حجة خالصة من مراءاة الناس، وليس فيها طلب للشهرة بينهم، فقال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.

ومن الأدلة على أن في الحج ترك الترفه من حلق الشعر ومس الطيب وتقليم الأظفار، قال تعالى في سورة الحج يذكر أحكام الحج:
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)
قال المفسرون: التفث هو الشعث وطول الشعر و الأظفار و قضاؤه هو إذهابه، فإذا قضى الحاج نسكه وخرج من إحرامه بالحلق وقص الأظفار ولبس الثياب ومس الطيب ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه.

قال الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، في ذكر الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة في الحج:
ومن الآداب أن يكون الحاج رث الهيئة أشعث غير مستكثر من الزينة ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر فيكتب في ديوان المتكبرين والمترفهين ويخرج عن جماعة الضعفاء والمساكين وخصوص الصالحين، وقد نهى النبي ﷺ عن المبالغة في التنعم والرفاهية، وفي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجه والبغوي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: سأل رجلٌ رسول الله ﷺ: ما الحاج؟؟، قال: الشعث الثفل،( الشعث يعني في ترك تسريح الشعر، والثفل في ترك الطيب)
.
وروى الإمام أحمد وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: إن الله تعالى يُباهي بأهل عرفات ملائكة أهل السماء، فيقول: أنظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً.

هذه النصوص وغيرها، تُبين أن الحاج ينبغي ليحقق مقاصد الحج، أن يميل إلى جانب الزهد والتقشف وإلى ترك المبالغة في التنعم والرفاهية، وإلى ترك التوسع في المآكل والاعتناء بفاخر المساكن والأثاث مما يتطلب إنفاق الكثير من الأموال، المهم أن يعتني بما هو نظيف وطاهر من الأماكن.

قال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب:
الترغيب في التواضع في الحج والتبذل ولبس العادي من الثياب، اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقال الإمام النووي:
الحكمة في لباس الإزار والرداء للمحرم إن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل.
وقال غيره من العلماء:
الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه وترك أنواع الاستمتاعات، فلا يلبس اللباس المعتاد، ولا يتطيب ولا يتزيَّن، ويلازم الخشوع والاخشيشان، ويقصد بيت الله تعالى أشعث أغبر.

قال أبو نعيم:
قدم الخليفة المهدي مكة وسفيان الثوري بمكة، فدعاه المهدي، فقال له سفيان وقد رأى ما هيأه المهدي للحج: ما هذه الفساطيط؟؟ ما هذه السرادقات؟ اتق الله، واعلم أن عمر بن الخطاب حجَّ، فسأل: كم أنفقنا في حجتنا هذه، فقيل: كذا وكذا ديناراً، ذكروا شيئا يسيرا، فقال: لقد أسرفنا.
و في رواية: أن سفيان الثوري قال للمهدي: حج عمر بن الخطاب، فلم ينفق إلا خمسة عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجر، فقال له المهدي: أتريد أن أكون مثلك؟؟!!، فقال له سفيان: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه.
وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟، قال: أن تعود زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة
.
أمام هذه النصوص وغيرها الكثير مما لم أذكره، والتي تحث على التقشف والزهد وترك المبالغة في الرفاهية، ماذا نقول في حال حج هذه الأيام؟؟، حيث في عرفات وهي مكان التذلل والخضوع والمسكنة لله عز وجل، نجد أفخر أنواع الطعام والشراب والعديد من أطباق الطعام المتعددة، وكذا الحال في الفنادق، حيث فيها من المآكل ما لذ وطاب، وفيها الموائد المفتوحة، وكأن الحج رحلة ترفيهية أو سياحية، لكن سياحة دينية.
وفي بعض مخيمات عرفات كان يصطف بعض الفتيات لاستقبال الحجاج بالورود الحمراء!!!!
وبعض الحجاج يكتفي بالصلاة في غرفهم مقتدين بإمام الحرم في الفنادق المطلة على الحرم.

ومن الخلل والانحراف عن مقاصد الحج، إيثار الراحة في الطواف والسعي للقادر على المشي فيؤثر ركب الكراسي المتحركة.
ومن الخلل والانحراف عن مقاصد الحج الاختلاط والتساهل في الحديث مع نساء الفوج كالأصحاب، مع قلة غض الأبصار.

ومن الانحراف عن مقاصد الحج غفلة أحدهم عن حرمة الزمان والمكان، وينسى قول الله تعالى:
(ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰاتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ)
فتراه يجادل ويماري ويصخب ويغضب إذا لم تقدم له الوجبات في أوقاتها المحددة أو توهم تقصيرا في حقه، أو يقع بعض الحجاج في أحاديث الدنيا واللعب بالجوال وهم في الحرم المكي أو النبوي.

ويحرص بعضهم على أن يكون سكنه ملاصقاً للحرم ويدفع لذلك الأموال الطائلة التي لو صرف الحاج بعضها في إعانة محتاج أو إغاثة ملهوف أو تفريج كرب مكروب لكان خيراً له في الدنيا والآخرة.
وقد يعذر في ذلك من كان مريضاً كبير السن ضعيف البدن لا يقوى على السير، أما من كان صحيح البدن معافى، فماذا يضيره أن يسكن في فندق لا بأس به يبعد عن الحرم بمقدار مشي عشر دقائق أو أقل أو أكثر، ويوفر المال لعملٍ فيه خير للناس.

ومما ساعد في انتشار هذه الظاهرة الدعايات المغرية والإعلانات المشوقة لبعض حملات الحج، حيث يعلنون عن مساكن مجهزة بجميع وسائل الراحة والرفاهية مع وجود خدمة الانترنت، وثلاث وجبات متنوعة من الطعام بنظام البوفيه المفتوح مع توفير المشروبات الساخنة والباردة على مدار الساعة،

وقسمت بعض الحملات أسعارها إلى فئات: الأولى الذهبية، والثانية الفضية، والثالثة المميزة، والرابعة الفاخرة، ولا مكان عندها للفئة المتقشفة الزاهدة،

وانتشرت اليوم وللأسف عبارة حج VIP ، حيث الحج الفاخر والمريح، والنزول في فنادق عشر نجوم.
مع أن النبي ﷺ قال: *الحج جهاد لا شوكة فيه*
وقال للسيدة عائشة رضي الله تعالى عنها حين أرسلها لأداء العمرة: *وأجرك على قدر نصبك*،
ومعلوم أنه ليس مطلوباً تكلف المشقة، وكذلك ليس مطلوباً تكلف الرفاهية والمبالغة في التنعم والراحة.
فهل الحج VIP أقرب إلى الله تعالى وإلى القبول، من الحج الذي ليست فيه هذه الصفة؟؟.
ماذا لو يقتصر الأمر في الحملات على توفير الطعام العادي والسكن العادي بدون إسراف ولا تفاخر، أما يحصل المقصود ويتفرغ القلب للمعبود سبحانه؟؟!!.

إن ثمة، وللأسف، انحرافاً كبيراً عن مقاصد الحج وأهدافه وآدابه .
ومن هذا الانحراف ما نراه من عديد من الحجيج وهو ممسك بجواله أثناء الطواف، أو أثناء السعي أو في عرفة، ويلتقط الصور لنفسه أو لمن حوله، أو يطلب من أحدهم أن يصوره وهو رافع يديه في الدعاء، ويرسل الصور والمقاطع إلى أصحابه، ويشغل بذلك نفسه عن أذكار الطواف وقراءة القرآن وعن الدعاء الذي هنا محله ووقته.

قال نافع مولى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لقد أدركت أقواماً يطوفون بهذا البيت كأن على رؤوسهم الطير تخشعاً.

وقال عطاء بن أبي رباح: طفت وراء عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فلم أسمع أحداً منهما يتكلم في الطواف.
وذكرت لكم قصة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه وكيف خطب عروة بن الزبير ابنته وهو في الطواف، فلم يرد عليه ابن عمر، ولما لقيه بعد ذلك عاتبه وقال له : ذكرت لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا، وكنت قادراً على أن تلقاني في غير ذلك الموطن؟؟!!.

فيا من يريد الحج، عليك بهدي النبي ﷺ والتزام آدابه ومقاصده، وألا يعكر عليك حجك مظاهر زائفة ورفاهية زائدة،

وعلى أمناء الأفواج أن يعينوا الحجاج على ذلك ، فيهيؤوا لهم من الظروف والأحوال ما يحقق مقاصد الحج ولا يتطلب المبالغ الباهظة والأموال الطائلة، وأن يعلموهم أن يضعوا أموالهم فيما فيه خير للعباد، وهذا يحتاج إلى بحث خاص والله أعلم.
وأخيراً، نقول لمن أكرمه الله تعالى بالحج ألا يُعيد الحج، لأنه قام بتأدية الفريضة التي فرضها الله عليه، فهناك حاجات وضروريات إنفاق الأموال فيها أفضل من الحج بمئات المرات، قد يقول أحدهم: أنا لا أقصِّر في أعمال البر والخير وأرغب في أن أحج، فتقول له: لو انتهت الحاجات والضرورات عند الناس، فيإمكانك الذهاب إلى الحج مرة أخرى، ولكن الحاجيات والضروريات في هذه الأيام كثيرة، وهذا المال الذي ستنفقه في الحج، أنفقه في محل آخر يرضي الله تعالى، الذي فرض عليك الحج مرة واحدة فقط
وهذا ما فهمه الفقهاء الكبار وما فهمه المحدثون أمثال عبد الله بن المبارك وغيره.

اللهم أرنا الحق حقاً وارقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نسألك اللهم حجا لا رياء فيه ولا سمعة، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
390


جلسة الصفا

24 شوال 1445
3 أيار 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*فقه الأولويات في العبادات*

مر معنا في الدرس الماضي خطر تشويه عبادة الحج والانحراف بها عن مقاصدها من التقشف والتخشع والتواضع، وترك المبالغة في الترفه والتنعم، لأن عبادة الحج هي عبادة التواضع والتقشف .

ثم ذكرت لكم أن من حجَّ حجة الفريضة فليس عليه حرج أن لا يحج حجة النافلة إن كان ثمة ضرورات وحاجات من أعمال الخير والبر ملحة ونافعة أكثر من حج النافلة، لأن في أعمال البر والخير أجر النفع العام، وفيها إزالة الضرورات عن الناس وتفريج كرباتهم وتنفيس همومهم وهذا أفضل من حج النافلة.

وقد بيَّن الله تعالى ذلك في القرآن الكريم وبينه الرسول ﷺ ، وهذا ما فهمه الصحابة والفقهاء رضي الله تعالى عنهم.

فالواجب على المسلم أن يتعرف إلى ما هو الأفضل من الأعمال في وقت من الأوقات، وأن يتوجه إلى العبادة التي تكون أولى وأفضل من غيرها في ظرف من الظروف، وذلك ليكسب الأجر الأكبر والثواب الأعظم ويؤدي المصلحة الأهم له ولغيره من المسلمين، وهذا ما يسمى بفقه الأولويات،
وعليه كذلك أن يعرف ما هو الأولى بحقه من الأعمال ، وما هو الأفضل بالنسبة لحاله وشخصه من العبادات

وهذا ما أرشد إليه الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة فقال:
(أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وجاهَدَ في سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عند الله)

قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره:
والآية خطاب لقومٍ سووا بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وبين الجهاد والهجرة، و أن كل ذلك من عمل البر، فهي خطابٌ لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد بعلة اجتزائهم واقتصارهم على السقاية والعمارة، والمراد بعمارة المسجد الحرام هنا، القيام بما ينبغي فيه من الإصلاح والحراسة ونحو ذلك.

وفي سبب نزول الآية روى الإمام مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبان وابن جرير وجماعة ، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند منبر رسول الله ﷺ في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أُسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ _ وكان ذلك يوم الجمعة_ولكن إذا صليت الجمعة دخلتُ على رسول الله ﷺ فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالى: اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام...إلى آخر الآية.
قال ابن عاشور:
وقد روي أن هذا التوهم سرى إلى بعض المسلمين، فروي أن العباس رضي الله تعالى عنه، رام أن يقيم بمكة ويترك الهجرة من أجل الشغل بسقاية الحاج والزائر، وأن عثمان بن طلحة رام مثل ذلك للقيام بحجابة البيت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

إذن، قد تكون هناك عبادتان فاضلتان في وقت واحد، وفي كل منهما أجر، لكن إحداهما في وقت ما وفي ظرف معين هي الأفضل والأولى، فعلى المسلم أن يتجه إلى العبادة الأفضل والأولى في هذا الظرف بالذات.

وهذا أرشد إليه النبي ﷺ ايضاً وطبقه عملياً، فقد روى الإمام البخاري ومٍسلم عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع النبي ﷺ في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال أنس: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله ﷺ: ذهب المفطرون اليوم بالأجر .
،يعني أن لهم من الأجر مثل ما للصوام وأجر خدمتهم لهم .

وهذا ما مشى عليه الصحابة والفقهاء من هذا الفهم السديد لأفضل الأعمال وأولى العبادات
قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: في آخر الزمان يكثر الحجاج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه،
يعني أن عبادته الأفضل والأولى أن يواسي جاره ويتفقد حاجاته وضروراته،

وقول ابن مسعود نقله الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، في كتاب ذم الغرور وبيان أصناف المغترين فقال : ومنهم فرقة ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على تزيين المساجد وزخرفتها، وهي مغرورة من وجهين:
أحدهما: الرياء وطلب الثناء، فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء، وصرف المال إليهم أهم وأفضل وأولى من الصرف على تزيين المساجد وزخرفتها .

والثاني: أنه يصرف على زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلين ومختطفة أبصارهم.

وقال الإمام الغزالي: وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعاً.
وكلنا يعرف قصة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله ﷺ ، ونعلم أن الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ بألف صلاة، فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان، أراك مكتئباً حزيناً، قال: نعم يا ابن عم رسول الله، لفلان عليَّ حق، ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟، قال: إن أحببت، قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟، قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب، وهو يقول: لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته، أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين، وأشار النبي ﷺ باصبعيه.

و روى الإمام أحمد في كتابه الزهد عن الحسن البصري رضي الله تعالى عنه قال: يقول أحدهم: أحج أحج، قد حججتَ ، صل رحماً ، نفِّس عن مغموم، أحسن إلى جار.

وقال الإمام ابن رشد رحمه الله تعالى: إذا كانت سنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يواس الرجل في سنة المجاعة من ماله بالقدر الذي يجب عليه فقد أثم، وقدر ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، فالتوقي من الإثم بالإكثار من الصدقة أولى من التطوع بالحج الذي لا يأثم بتركه.

وقد سئل الإمام مالك إمام دار الهجرة عن الحج(النافلة) والصدقة، أيهما أحب إليك؟، قال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة.

وهذا قاله كثير من الفقهاء، قال أحدهم: إذا كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل من حج النافلة، وكذا إذا كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته.

وهذا ما فعله فقيه الإسلام العارف بمقاصده وأولويات عباداته، شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك، فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية وسبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، أن عبد الله بن المبارك خرج مرة مع بعض أصحابه إلى الحج(حج النافلة)، فلما كان في بعض الطريق مات لهم طائر يقال له: القبجة، فأمر غلمانه بإلقائه في مزبلة الطريق، وإذا بفتاة جاءت وأخذت هذا الطائر الميت، فسألها عن شأنها، فأخبرته أنها وأخاها من الفقراء، وأن أباهما قُتل وأُخذ ماله، ولذلك الميتة تحل لهم، فقال عبد الله بن المبارك لخادمه: كم معنا من المال؟، فقال: ألف دينار، فقال : ابق منها عشرين نرجع بها إلى بيوتنا ، وأعط الباقي لهذه الفتاة، فهذا أفضل من حجنا هذا العام، فلما عاد إلى مرو قالوا له: ما الذي ردَّك؟؟!!، فقال: لقد استقبلنا ما هو أفضل من الحج.

هذا هو فهم الفقهاء الكبار لمقاصد الشريعة، ومعرفتهم بالأولى من العبادات.

وهذا بشر بن الحارث المعروف ببشر الحافي، والذي وصفه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، أنه الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة شيخ الإسلام، وقال عنه أحد كبار المحدثين واسمه إبراهيم الحربي: لو قُسم عقل بشر على أهل بغداد صاروا عقلاء، وقيل للإمام أحمد بن حنبل: مات بشر، فقال: مات والله وماله نظير .
بشر هذا قيل له: إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة، فقال لهم: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه، ومن جمعه للدنيا ومن منعه للفقراء.

وذكر الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين : أن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث ، وقال: قد عزمت على الحج(حج النافلة)، فتأمرني بشيء؟، فقال له: كم أعددت للنفقة؟، فقال: ألفي درهم،
فقال له بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟، تزهداً، أو اشتياقاً إلى البيت ، أو ابتغاء مرضاة الله تعالى؟،
قال: ابتغاء مرضاة الله .
قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك ، وتنفق ألفي درهم ، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى، أتفعل ذلك؟،
قال: نعم،
قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس، مديون يقضي دينه، وفقير يرمُّ شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف، أفضل من مئة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرناك، وإلا، فقل لنا ما في قلبك.

هذه من أهم مقاصد الشريعة وأولويات العبادات، إطعام البطون الجائعة ، وكسوة الأجساد العارية، وإيواء المشردين، وكفالة الأيتام، وتخفيف آلام المرضى، وتعليم الجاهلين، وتشغيل العاطلين، وهي أفضل عند الله تعالى من حج النافلة.

والخلاصة: الواجب على المسلم أن يعرف ما هي وظيفة الوقت، ما هي العبادة الأفضل في هذه الظروف لكي ينال الأجر الأعظم والثواب الأكبر من الله تعالى.

قال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الله تعالى في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته قال : فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل الأمر إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، وهذا كما جرى لسيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، والذي سماه رسول الله ﷺ ، سيف من سيوف الله، قال خالد: لقد منعني كثيرا من قراءة القرآن، الجهاد في سبيل الله، يعني: شغله عن الإكثار من القراءة، وليس عن القراءة كلها، لأن عبادته الأفضل بحقه ووقته هي
الجهاد في سبيل الله.
روى ابن أبي شيبة في المصنف أن خالد بن الوليد أم الناس بالحيرة، فقرأ من سور شتى، ثم التفت إلينا حين انصرف، فقال: شغلنا الجهاد عن تعلم القرآن(حفظ القرآن).
ثم قال ابن القيم: والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً، القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك القيام بأداء حق الزوجة والأهل،
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل، الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو بالبدن أو المال، الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته ، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.

وذكر كثيراً من الأحوال وما هي أفضل العبادات فيها إلى أن قال:
فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله تعالى في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه .
ثم قال: هؤلاء هم أهل التعبد المطلق، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فلا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً نافعاً يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
391

جلسة الصفا

2 ذو القعدة 1445
10 أيار 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

*بيان حرمة الإسراف والتبذير وصور ذلك*

تكلمنا في الدرس الماضي أن من أكرمه الله تعالى فأدَّى حجة الفريضة، فإن ثمة أبواباً كثيرة من أبواب الخير من مثل تفريج كربات المكروبين وكفالة اليتامى وإعالة الأرامل والمساكين وإغاثة المنكوبين والملهوفين إلى غير ذلك من حاجات الناس الضرورية، الإنفاق فيها أفضل من الإنفاق لأجل حجة النافلة، وذكرت لكم الأدلة والشواهد على ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وأقوال العلماء والفقهاء وأفعالهم.

فإذا كان تحويل تكاليف حجة النافلة إلى هذه الوجوه من الخير أفضل مع أنها عبادة، فما القول في إنفاق الأموال في وجوه الفساد والبذخ والترف في غير ما يرضي الله تعالى؟؟!!.
لا شك أن هذا حرامٌ قطعاً، ومنفق الأموال في ذلك مذمومٌ وملومٌ ومشؤومٌ في الدنيا والآخرة، ومحاسبٌ على ذلك عند الله تعالى يوم القيامة، إذ يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، كما أخبر بذلك النبي ﷺ.

وقد ذكر العلماء والمفسرون أن كل مال قلَّ أو كثر يُنفق في غير مرضاة الله تعالى وفي غير ما شرعه الله عز وجل، إنما هو إسرافٌ وتبذير جاء النهي عنه في كتاب الله تعالى، وفي أحاديث نبيه ﷺ ولهج بذمه وبيان شؤمه الصحابة الكرام والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.

وذاك أن الإسراف والتبذير داءٌ فتاك يُهدد المجتمعات، ويُبدد الأموال والثروات، وهو سبب لتفتت المجتمعات وشيوع المنكرات وسببٌ لوقوع البليات العاجلة والآجلة

ولذلك نهى الله تعالى، وهو العليم الحكيم، عن الإسراف والتبذير نهياً جازماً قاطعاً، فقال سبحانه و تعالى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

ومدح الله تعالى الذين يقتصدون في إنفاقهم فلا يضعون المال إلا فيما فيه نفع وصلاح، ويكفيهم شرفاً وفخرا أن أضافهم الله تعالى إليه، فقال:
(وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰاهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰامٗا (64)) إلى أن قال : (وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا (67))

ومن صور هذا الإسراف والتبذير الذي نهى الله تعالى عنه ما يكون في مناسبات شتى، كحفل زواج، أو ابتهاجاً بمولود، أو احتفالاً بصديق، أو غيرذلك من المناسبات، إذ يحرص بعضهم على إقامة حفلاتهم في الصالات الفخمة باهظة الثمن والتكاليف، ويرى صاحب الحفل وهو ذو ثروة عظيمة، أنه لا يليق به إلا أن يكون حفلُه في هذا المكان، هذا مع تقديم كميات كبيرة من الطعام قد لا يأكل الناس منه إلا جزءاً يسيراً منه، ثم مصير باقي الطعام إلى ما تعلمون.

ولا تسل عما ينفق من الأموال من أجل ملابس هذه الاحتفالات وديكوراتها وزخارفها .
وواضحٌ أن القصد من وراء إنفاق الأموال في مثل ذلك إنما هو من أجل الفخفخة والمظاهر والبرستيج، ولانتزاع إعجاب الناس وثنائهم.
وقد يضاف إلى ذلك إقامة حفلات غنائية وموسيقية باذخة واستقدام مطربين ومطربات يتقاضون في ساعة واحدة ما يكفي لإنعاش أسرة فقيرة عاماً كاملاً أو أكثر، هذا سوى ما قد يكون عرساً مختلطاً من الرجال والنساء، فهذا أدهى وأمر.

وهنا نسأل صاحب هذا الحفل:
هل ما فعلته يرضي الله تعالى؟
ماذا يفيدك إعجاب الناس وثناؤهم ومديحهم؟؟.
وما كل ذلك في الحقيقة إلا فقاعات تنتهي إلى الهواء ثم تتلاشى.

وثمة أمر آخر خطير، ذكره الله تعالى في كتابه المجيد، ولنُصْغِ إلى قول الله تعالى:
﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًاً إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾
قال الطاهر ابن عاشور في تفسير هذه الآية:
والتبذير :تفريق المال في غير وجهه وصرفه في غير ما أمر الله به، وهو كفر لنعمة الله بالمال، وهو مرادف الإسراف، فإنفاقه في الفساد تبذير ولو كان المقدار قليلاً.

وقال: وفرة المال والثروة التي آتاها الله تعالى للأغنياء، يجب أن تكون محفوظة لإقامة أَوَدِ المُعْوِزين وأهل الحاجة الذين يزدادُ عددهم بمقدار وفرة المال التي بأيدي أهل الوفر والغنى، فالأصل أن يكون هذا المال مرصوداً لإقامة مصالح العائلة والقبيلة، وبالتالي مصالح الأمة،

والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عدة لها، وقوة لابتناء مجدها، ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطَبين في قوله:
(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)
ولم يقل: أموالهم، مع أنها أموال السفهاء، بدليل قوله بعدها:
(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)
وما منع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير.
وقد ذكر الله تعالى المفعول المطلق(تبذيرا) بعد(ولا تبذر) لتأكيد النهي، كأنه قيل: لا تبذر، لا تبذر.
ومعنى قوله تعالى: (إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ)، أن التبذير يدعو إليه الشيطان،لأنه إما إنفاقٌ في الفساد والمعاصي والمنكرات، وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات، وكل ذلك يُرضي الشيطان، فلا جرم أن كان المبذرون من جند الشيطان وأعوانه.

لذلك نقول:
أيهما أولى للعبد أن يكون من عباد الرحمن؟، أو يكون من إخوان الشياطين؟؟

إن الله تعالى لا يمنعك من أن تتنعَّم في ما آتاك، ولكن دون غلوٍ وإسرافٍ وتكلف، واسمع لما قاله النبي ﷺ: كلوا واشربوا وتصدَّقوا، ولكن في غير إسراف ولا مخيلة.
وقد ذكر المخيلةَ عقب الإسراف، لأن الإسراف من آثاره الكبر والخُيَلاء.

وقال رسول الله ﷺ:
إن الله كره لكم (أي:حرم) قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.

قال الإمام العيني أحد كبار المفسرين: إضاعة المال: صرفه في غير ما ينبغي.

وقد غضب النبي ﷺ من الإسراف في المهور، فروى الإمام مسلم في صحيحه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي ﷺ : على كم تزوجتها؟، قال: على أربع أواق(تساوي حوالي 600 غرام من الفضة، وسعرها اليوم قرابة أحد عشر مليون ليرة سورية)، فقال له النبي ﷺ: على أربع أواق ؟؟!!، كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل!،
فقد قاله النبي ﷺ على سبيل الإنكار والتعجب من كثرة المهر مع قلة ماله، فإنه كان فقيراً، فأدخل نفسه في مشقة تعرض للسؤال بسببها.

وهذا الحديث النبوي الشريف يشير إلى أمر خطير وهو أن بعض من لا يملك المال الوفير ويريد إقامة حفل زواجه، فلأجل الفخفخة والمظاهر وليُجاري الأغنياء في حفلاتهم الباذخة، فإنه يستدين أموالاً طائلة ويُرهق نفسه بالديون لمدة طويلة.

فما أجمل أن نعود إلى البساطة وعدم الغلو والتكلف والإسراف والتبذير، ونتخلى عن حب المظاهر والبرستيج لنعيش حياة السعادة والطمأنينة،

وعلى الأغنياء الذين آتاهم الله تعالى المال، أن يكونوا هم القدوة في البساطة، وترك التنطُّع والتكلف في الإنفاق.

وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهى.

وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير فهو لك(لك أجره وثوابه)، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.

وقال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف.

وقال سفيان الثوري: ما أنفقت في غير طاعة الله تعالى فهو سرف، وإن كان قليلاً.

ولذلك فإن إنفاق المال على الدخان والأركيلة، هو من الإسراف والتبذير لأنه إنفاق على محرم،
وثمة أقوال أخرى للعلماء في ذلك، اقتصر على ما ذكرت منها خشية الإطالة.

ومن صور الإسراف والتبذير متابعة الموضة والانشغال بجنون الأزياء والاستجابة لإغراءات الحملات الإعلامية الصاخبة التي تحمل كثيراً من متابعيها على شراء ما لا يحتاجون إليه، تحت عنوان متعة التسوق، فلأجل متعة التسوق تشترى أشياء لا حاجة لها، وليست من الحاجيات.

سمعت مرة عن فتاة صالحة، منذ زمن أراد والدها في حفل زفافها أن يشتري لها فستان الزفاف بمبلغ مليون ليرة سورية، فقالت لوالدها : أعطني هذا المبلغ لكي أشتري بدلة الزفاف على ذوقي، فأعطاها المبلغ.
فقامت هذا الفتاة فأعدت بهذا المبلغ وجبات غذائية ووزعتها على العائلات الفقيرة، وكانت تطلب منهم الدعاء والبركة بزواجها، واستعارت بدلة زفاف من صديقتها، ولم يعلم أحد بذلك، ثم علم والدها بعد فترة، فقال لها: هنيئاً لك يا ابنتي.
وقد ضاق الوقت عن أن نذكر لكم كيف احتفل النبي ﷺ بزواجه، وماذا قدم في ذلك، لعلنا نذكر هذا في وقت آخر إن شاء الله تعالى، لنقتدي به ﷺ ونتبع هديه العظيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً نافعاً يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
392


جلسة الصفا

9 ذو القعدة 1445
17 أيار 2024

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

*ما يُغفر بالحج وما لا يُغفر*

هنيئا لمن سيُكرمه الله تعالى بالحج وقُبِلَ أن يكون من حجاج هذا العام، لأنه سيؤدِّي عبادة من أعظم العبادات، فيها إعلان التوحيد الخالص لله وحده، والانقياد المطلق لله تعالى ، والتجرُّد من مظاهر الدنيا وزينتها ورتبها ، والإقبال بالكُليِّة على الله عز وجل، والعبودية التامة لله تعالى، وما أعظم هذه المكاسب والمرابح

ولذلك كانت مكافأة من يذهب إلى الحج أن يغفر الله تعالى ذنوبه جميعها، ويرجع من ذنوبه بصحيفة بيضاء ليس فيها شيء من سواد الذنوب وقاذوراته، وكأنه الآن ولدته أمه لم يقترف ذنباً على الإطلاق.
فقد روى الإمام البخاري ومسلم من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال:
من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه.

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال:...... فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي ﷺ فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مالك يا عمرو؟؟!!، قلت: أردت أن اشترط، قال تشترط بماذا؟، قلت: أن يغفر لي، فقال له النبي ﷺ: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟؟.

فعبادة الحج يمحو الله تعالى بها الذنوب ويكفر بها السيئات

ولكن، ما هي الذنوب التي تمحى بالحج؟، وما السيئات التي تكفر بهذه العبادة؟؟.

الجواب:
أن الله تعالى يمحو الذنوب التي تتعلق بين العبد وربه مما اقترفه من المعاصي والمنكرات والقبائح والموبقات، كمن شرب الخمر مثلاً، أو ارتكب فاحشة، أو غير ذلك من الذنوب والسيئات،

إلا أن هناك حقوقاً لا يغفرها الله تعالى هي حقوق واجبة لا تسقط بأداء فريضة الحج، وهذا يجب أن يعرفه الحاج وغير الحاج، وهذه الحقوق هي قسمان:

*أولاً*: ما كان حقوقاً لله تعالى كالكفارات والنذور، وما ثبت في ذمة الإنسان من زكاة لم يؤدها، أو صيام يلزمه قضاؤه أو صلاة فاتته.

فمن كان تاركاً للصلاة فإن الحج لا يسقط عنه هذه الصلوات التي فاتته، وإنما يجب عليه قضاء هذه الصلوات الفائتة بعد الحج، وإنما يغفر الله تعالى له إثم تأخيرها أو تركها عمداً.

وكذا من كان عليه صيام أيام من رمضان، أو عليه نذر فعليه أداء ذلك وفعله بعد الحج، ويغفر الله تعالى له التساهل في أدائه في وقته،

ومن وجبت عليه زكاة ولم يؤدها لا تسقط عنه بعبادة الحج ولا بغيره من الأعمال الصالحة، وإنما تبقى ذمة في عنقه عليه أن يؤديها بعد رجوعه من الحج، وخاصة أن الزكاة تتعلق بحق الله تعالى وحق العباد.

قال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام: من ترك الصلاة أو الزكاة أو غيرهما من الحقوق، فالحج يُكفِّر عنه إثم التأخير لأنه هو الذنب، وأما إسقاطه لما استقر في الذمة من صلاة وزكاة ونذر، فهذا خلاف إجماع المسلمين.
ولو أفتى أحدٌ من أهل الفتيا بأن الحج يسقط شيئاً من حقوق الله تعالى لاجترأ العصاة على أن يتركوا كل حق من حقوق الله تعالى، ثم يحجوا إسقاطاً لجميع حقوق الله تعالى، فالذي يوجبه الحج الذي اجتنب فيه الرفث والفسوق، إنما هو إسقاط المعاصي والمخالفات، وليست حقوق الله تعالى معصية ولا مخالفة حتى تندرج في الحديث.
فمن أخر الكفارة أو النذر أو الصلاة أو الزكاة أو الصوم عن أوقاتها التي اوجبها الله عز وجل كان عاصياً بمجرد التأخير، فهذه المعصية هي التي يكفرها الحج المبرور، وأما إسقاط تلك الحقوق بالحج فهذا شيء لم يقله أحد من أهل الإسلام.

*ثانياً*:
مما لا يسقطه الحج ما يتعلق بحقوق العباد ومظالم العباد، فمن عليه دينٌ أو أنه آكل أموال الناس بالباطل، أو كان مغتصباً لحقوق العباد لا يعطيهم حقوقهم ويماطل ويسوف، فإن الحج لا يسقط ذلك عنه، إذ لا يغفر الله تعالى الذنوب التي تتعلق بحقوق العباد حتى يرد العبد إلى الناس حقوقهم ويعيد إليهم أموالهم.

وكلنا يعلم أن غصب الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل من أكبر الذنوب وأقبح المعاصي وأبشع الموبقات، ومن فضل الله تعالى وعدله أنه سبحانه وتعالى لا يكفر هذه الذنوب، وإلا لأكل الناس بعضهم ثم حجوا أو تابوا إلى الله عز وجل، لكن من لطف الله تعالى بعباده وعدله فيهم ألا يقبل توبة مغتصب حقوق الناس إلا بِرَدِّها إلى أصحابها.

وقد جاء تحريم غصب الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل في آيات عديدة في كتاب الله عز وجل، وبيَّن النبي ﷺ بشاعتها وفظاعتها ونتائجها الوخيمة في عديد من أحاديثه ﷺ.
نكتفي من ذلك، بقوله تعالى:
*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا*
أي إذا كنت مؤمناً حقاً لا تأكل مال أخيك بالباطل، المؤمن لا يأكل المال بالباطل مهما كان نوعه من رشوة أو اختلاس أو سرقة، ثم قال بعدها: (ولا تقتلوا أنفسكم،) لأن أكل أموال الناس بالباطل قد يؤدي إلى الجرائم، فالله تعالى كان بنا رحيماً، عندما منع أن ياخذ احد مالك بغير حق، ورحيماً أن منع القتل بسبب ذلك.

ومن النتائج الوخيمة لأكل أموال الناس بالباطل:
1- يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان، فقد ذكر الله تعالى أن من أسباب غضبه على بني إسرائيل وتحريم طيبات عليهم أكلهم أموال الناس بالباطل، قال تعالى:
*فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*
و روى الإمام أحمد وغيره من حديث سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
*من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان*

2- يحرم الله تعالى عليه الجنة ويوجب له النار، فروى الإمام مسلم من حديث أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
*من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله، وإن كان شيئاً يسيراً؟، قال: وإن كان قضيباً من أراك*
بيمينه: اي بسلطته أو بالحلف الكاذب

3- يتلفه الله تعالى:
روى الإمام البخاري من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله

4-لا تقبل توبته إلا بأن يرد الحق إلى أهله والمال إلى صاحبه.

5- لا تقبل صدقته إن تصدق بالمال الحرام، فقد روى الإمام مسلم والترمذي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
إن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيباً
وروى الإمام أحمد أن النبي ﷺ قال:
لا يكسب عبدٌ مالاً من حرام فيُنفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار .

6- لا تستجاب دعوته، فروى الإمام مسلم أن النبي ﷺ ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي من حرام، فأنى يُستجاب له؟؟!!.

7- لا يغفر له ذنب عدم وفاء دينه، ولو قتل شهيداً، روى الإمام مسلم في صحيحه أنه جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟، قال: نعم إن قتلت، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله ﷺ: كيف قلت؟، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟، فقال رسول الله ﷺ: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك.
وفي رواية:
فلما أدبر الرجل، قال له: تعال: هذا جبريل يقول: إلا أن يكون عليك دين.

8- يحرم شفاعة الرسول ﷺ ودعاءه له، فقد روى الإمام البخاري عن سلمة بن الأكوع أن النبي ﷺ أُتيَ بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه من دين؟، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى،فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: عليَّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه.

وبناء على ذلك قال العلماء:
من أراد الحج وعليه دين، فعليه أن يبدأ بسداد الدين الذي حلَّ أجله، لأن قضاء الدين متحتم ، والحج لا يلزمه إلا إذا كان مستطيعاً بعد قضاء الديون وتسديدها، فإذا فرغ من قضاء الدين يحج.

لكن إذا سمح له صاحب الدين أن يحج ويؤجل سداد دينه فلا حرج في ذلك،

وكذا إذا كان دينه مؤجلاً وليس حالاً فلا حرج عليه أن يحج.

قال الإمام النووي في كتابه "المجموع" :
من عليه دينٌ حالٌّ وهو موسر يجوز لمستحق الدين منعه من الخروج إلى الحج، ما لم يؤد الدين، أما إن كان الدين مؤجلاً فلا منع ولا مطالبة، لكن يُستحب ألا يخرج حتى يوكِّل من يقضي عنه الدين عند حلوله.

فإن قال صاحب الدين: سدد على مهلك، فيدل على أنه جعل دينه على التراخي والتأجيل، وعليه فلا إثم عليه في الحج مع الدين.

وإن كان سيحج على نفقة غيره مثل حجة البدل فلا مانع من ذلك أيضاً.

وعلى كل، إن حج وعليه دين فحجه صحيح، لكنه أثم بتأخير قضاء دينه

، قال ابن قدامة في كتابه المغني : وإن حج من تلزمه الحقوق صح حجه، لأنها متعلقة بذمته، فلا تمنع صحة فعله.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين
♥️جلسة الصفا ♥️


12 ربيع الآخر 1437

22 كانون الثاني 2016

لفضيلة الشيخ♦️
🔸محمد نعيم عرقسوسي🔸


💥 بعنوان

*من أسباب الكبر الثروة والمال(1)(7)*

لا زلنا نتحدَّث عن هذا الخلق الذميم الذي يتصف به كل لئيم، والذي هو أم الرذائل وهو داء الكبر، وسمَّاه الإمام الغزالي: الداء العضال، ووصفه أحد الباحثين فقال: الكبر من أشرس الأخلاق الاجتماعية التي تقوّض بنيان المجتمع وتمحق الأجور والحسنات، إنه من أشرس الأخلاق التي تشيع الكراهية والحقد والبغضاء في المجتمع.
وذكرنا في الدرس الماضي ما قد يُحدث في الإنسان الكبر وهو المنصب والجاه، و قد لا يحدث فيه الكبر، فهناك أناس من ذوي المناصب الرفيعة والجاه العريض على التواضع الجم وعلى الأخلاق الرضية التي يحبها الله سبحانه وتعالى.

واليوم نتحدث عن أمر آخر قد يُحدث في الإنسان الكبر والغرور والتيه، هو المال والثروة، الثروة والمال والغنى قد يُحدث في الإنسان تغيرا،ً يحدث فيه الصلف والتيه والغرور، قد يكون له الأثر في انتفاخه واستعلائه على من حوله، فحينما كان شخصاً عادياً بسيطاً، كان وديعاً لطيفاً متواضعاً ، فلما كثُرَ المال بين يديه واتسعت الثروة في صندوقه حينئذٍ لم يعد يرى أحداً أمامه.

إن تكبر صاحب الثروة وصاحب الغنى له مخاطر عديدة ومساوئ كثيرة يجب أن يحذر منها الإنسان إذا آتاه الله تعالى المال، ونحن نريد أن نعدد هذه المخاطر حتى يحذر أصحاب الأموال من الوقوع فيها، ولكي يُسخِّروا هذه النعمة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى.
أول هذه المساوئ والمخاطر لكبر صاحب المال والثروة، أنه يكشف عن نفسٍ رديئة مريضة، فإذا تكبَّر من صار لديه المال والثروة معنى ذلك أن نفسه مريضة، لذلك قال العلماء: الغنى تتغير به أخلاق اللئام بطراً، يعني عجباً وغروراً، وعبَّر عن هذا المعنى أحد الشعراء فقال:

فإن تكن الدنيا أنالتك ثروةً......فأصبحت ذا يُسرٍ وقد كنت ذا عسرِ
لقد كشف الإثراء منك خلائقاً...من اللؤم كانت تحت ثوبٍ من الفقر

وأحد الشعراء الكبار المعروفين محمود سامي البارودي يقول:

وكذا اللئيم إذا أصاب كرامة...عادى الصديق ومال بالإخوان

فمن وجد في نفسه شيئاً من هذا فينبغي أن يعرف أن به مرضاً وأن به لؤماً يجب أن يعالجه، كي لا يلقى الله به لئيماً بل يلقى الله كريماً.
من المخاطر الأخرى التي يُصاب بها الإنسان، أن كبر صاحب الثروة يطمس بصيرته، ويعميه عن رؤية الحقيقة الكونية بأن كل شيء في هذا الوجود من الله سبحانه و تعالى:
*قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ*
تعميه عن حقيقة أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فيعيش هذا الإنسان المتكبر بسبب الثروة في أوهام نفسه وخيالات ذهنه المريض، لأنه يُنكر بأن هذه الثروة من فضل الله تعالى عليه، وينسى أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، بل يرفض كل من يقول له هذا الكلام، لأنه يعتقد تمام الاعتقاد بأن هذا الكسب حصل له بجهده وبمحض مهارته وحسن تدبيره وحدة ذكائه وألمعيته، وشدة دهائه وقوته، وينسى أن من أعطاه هذه القوة والذكاء والدهاء هو الله تعالى، ولكن الكبر يُعميه عن هذه الحقيقة الكونية الماثلة في هذا الوجود، وهذا الذي جرى لقارون، والله تعالى قصَّ لنا قصته ليعتبر بها أصحاب الثروات، وأصحاب الكنوز والأموال، ورأينا أنه من المناسب أن نقف عند تلك القصة العظيمة الرائعة، قال الله سبحانه وتعالى:
*إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*
لقد كان قارون من قوم موسى فبغى عليهم، فبسبب الثروة الواسعة والكبر بغى على أهله على قومه، ونحن قد نجد في أسرة ما، واحداً منهم في غاية الثراء يتنكَّر لإخوته لأقربائه، يزهو عليهم بسبب الكبر الذي أصابه من هذه الثروة التي هي أصلاً للاختبار والابتلاء.
يقول المفسرون: في قوله تعالى: *إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى* ، أن قارون في أرجح الأحوال ابن عم سيدنا موسى عليه السلام كما قال الطبري، لكن لم تنفعه قرابته من سيدنا موسى لأن الثروة الطائلة والأموال الهائلة التي أوتيها أعمت بصيرته وقسَّت قلبه، والله وصف هذه الثروة بقوله عز وجل:
*وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ*
جماعة من الرجال الأقوياء يثقل عليهم حمل مفاتح هذه الثروة، والمفسرون فسروا معنى مفاتح: إما مفاتيح صناديق الكنوز، والبعض الآخر فسر المفاتح: الخزائن والصناديق التي فيها هذه الأموال، أي هذه الخزائن والصناديق يصعب حملها، وبغض النظر عن التفسيرين فإن المراد هو تصوير ما كان لديه من ثروة عظيمة وكنوز كثيرة، لكن الله سبحانه وتعالى ذكر الحقيقة والواقع في أول كلمة عندما قال: *وَآتَيْنَاهُ* ، لم يقل: وأوتي من
الكنوز، بل قال: وآتيناه ب(نا) العظمة، ولم يقل وآتيته، فالله تعالى بعظمته وغناه هو الذي أعطاه هذه الكنوز.
و من كان حول قارون ومحيطاً به، رأى ما كان عليه من الصلف والتيه والغرور، مع أن المفسرين قالوا: أن قارون كان على علمٍ بالتوراة، ومع هذا فالثروة طمست بصيرته، ولم تنفعه لا قرابته من سيدنا موسى ولا معرفته بالتوراة، فمن كان حوله وكان محباً له ومشفقاً عليه من أهل الصلاح والتقوى من أهله قدموا له النصائح مباشرة لينقذوه من هذه السكرة، سكرة المال والسلطان، فقال الله سبحانه وتعالى أن أهله والناصحين له والمشفقين عليه لما رأوا كيف استبد به العجب بالمال، خافوا أن يلقى مصير المتكبرين فقالوا له بلسان الحب والإشفاق: *لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* ، هنا الفرح: فرح البطر والعجب والخيلاء، وليس الفرح العادي الذي نعرفه، ثم قالوا له كلمة هي كافية لأن تجعله ينزع رداء الكبرياء، قالوا كلمة جميلة جداً وهي بلسان الحب والإشفاق، قالوا له: *إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* (البطرين)، والبطر يوصل إلى الهلاك، قال الله تعالى في القرآن الكريم:
*وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ* ، هذه الآية مخيفة، لو فكرنا فيها ونظرنا إلى واقع الناس من حولنا.
ثم قالوا له ليُرشدوه إلى الطريق الذي ينبغي أن يسلكه:
*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ*هنا أعادوا عليه بأن هذا المال الذي بين يديك هو من الله تعالى فقالوا: * *آتَاكَ اللَّهُ*، *وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ* ، أي استعمل هذا المال في طاعة ربك واستعملها في التقرب إلى الله في أعمال القربات التي جعلها الله تعالى ميسورة وكثيرة بين لديك، ثم قالوا له: *وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا* ، يعني ليس معنى أن تجعل هذا في طاعة الله أن تحرم نفسك!!، فلا تلام إن تمتعت بهذا المال في حدود شخصك وأسرتك، قالوا كلاماً واقعياً ومنطقياً، لم يطلبوا منه أن يتصدق بكل الأموال التي لديه، ثم ذكروه بما ينبغي أن يكون عليه من أُحسنَ إليه، قالوا له: *وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ* ، لأنه من المنطق أن يُقابل الإحسان بالإحسان، كما قال الله تعالى: *هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ* ، أي لا ينبغي أن يُقابل الرجل الإحسان بالبغي والطغيان، ثم قالوا له: *وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ*، ثم أعادوا عليه الكلمة الرادعة لكل عاقل *إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* ، قالوا له في البداية: إن الله لا يحب الفرحين البطرين، أي إياك أن تكون منهم، ثم قالوا له: إن الله لا يحب المفسدين يعني إياك أن تكون منهم، ومن لطف كلامهم لم يقولوا له: إن الله لا يحبك لأنك متكبر ومفسد، بل قالوا له: إياك أن تكون من هؤلاء، لأن هؤلاء لا يحبهم الله تعالى، هذا الكلام المشفق من المحبين له قابلها قارون الذي كان قلبه مغلقاً قاسياً متحجراً، الثروة أعمته والكبر طمس الحقيقة عنده فقابل هذه الكلمات بصلفٍ وغرور وكبرياء، قال: *إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي* ، جملة مليئة بالكبر لأنه قال: (إنما) وهي كلمة تفيد القصر(أوتيته) أي القضية محصورة بجهده الخاص، (على علم عندي) كل كلمة فيها كبر، قال ابن عاشور صاحب كتاب التحرير والتنوير:
قال(على)للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، لم يقل أوتيته بعلم، ثم قال: (علم)، والنكرة في اللغة تفيد التضخيم والتهويل يعني علم عظيم، ثم قال: (عندي) نسب الأمر إليه، لذلك قال ابن عاشور: صفة عندي لعلم، تأكيداً لتمكنه في العلم وشهرته به.
فردَّ الله سبحانه و تعالى عليه مباشرة فقال:
*أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا*،
إذن علمه علم ناقص وهو عين الجهل، قال المفسرون: هذا الرد من الله تعالى ليعلمه المسلمون الذين يتابعون هذه القصة.
قال ابن كثير في تفسير(العلم): أن الله أعطاني هذا المال لأني أستحقه، وأنا أعلم منكم مما تعظونني به، لأنه كان لديه علم بالتوراة، فيقول لهم: المراد من العلم، علم أحكام إنتاج المال من التوراة، كأنه يقول لهم: لولا ما كنت أعلم من خلال ما قرأت في التوراة، ولولا أني استحق هذا لما وصلت إلى هذه الثروة، ونقل ابن كثير عن أحد المفسرين اسمه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: يريد قارون أن يقول أنه لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال، وهذا كله وهم وكذب، ويعقب ابن كثير على هذا الفهم الخاطئ فيقول:
*وهكذا يقول من قلَّ علمه إذا رأى من وسَّع الله عليه في المال، يقول: لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي*.
لأنه من أعطي المال، أعطي له اختباراً و ابتلاءً ، ومن حجب المال عنه حُجبَ اختباراً و ابتلاءً، وقد أشار الله إلى ذلك في سورة الفجر عندما قال:
*فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)كَلَّا *.
فلا العطاء إكرام ولا المنع إهانة والأمر كله ابتلاء واختبار، لذلك قال ابن كثير:
*يقول من قلَّ علمه إذا رأى من وسَّع الله عليه في المال، يقول: لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي*.
ونحن نرى كثيراً من الناس في بلاد كثيرة ممن أوتوا المال والثروات، ويفعل بها الأفاعيل والمنكرات، ولابن مسعود رضي الله تعالى عنه له كلام جميل جداً يقول:
*إن الله يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا لمن أحب* .

ونعود إلى قول الله تعالى:*أَوَلَمْ يَعْلَمْ* ، قال ابن عاشور: إن الهمزة في *أَوَلَمْ يَعْلَمْ* هي للاستفهام الإنكاري التعجيبي، يعني تعجيباً من عدم جريه على موجب علمه، أين علمك على أن الله قد أهلك أمماً على بطرهم النعمة وإعجابهم بقوتهم؟؟، تعلم كيف تأتي بالمال، ولا تعلم ماذا جرى بأصحاب الأموال في الأمم السابقة؟؟.
وبالرغم من كل هذا الرد وكلام قومه المشفقين عليه، كان موقف قارون: * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ*
يعني أمعن في تكبره وأصرَّ على صلفه وركب رأسه وأراد أن يغيظهم، وقوله: (خرج على قومه) للاستعلاء عليهم، والزينة هي التي فيها كل ما يلفت الأنظار من جمال الأشياء والتباهي بها، من الثياب والطيب والخدم والحشم، هنا انقسم قومه قسمين، القسم الأول الذي انبهر من هذه الزينة وهذا الموكب العظيم، وسال لعابهم بما رأوه واغتروا بهذه الزخارف الزائلة، قال تعالى عنهم:
*قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*
لم يقولوا: ليت لنا، بل قالوا: يا ليت لنا، وذلك لشدة حرصهم وتعلقهم بهذه الزخارف، يريدون مثلما أوتي قارون تماماً لأنه حسب رأيهم ذو حظ عظيم، هذا الكلام الذي انطلق من هؤلاء الذين لا يفكرون بالعواقب، قابلهم الفريق الثاني من قوم قارون نفسه من أصحاب العقل والفهم والبصيرة النافذة، قالوا لهم:
*وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا*
قال العلماء: كلمة الويل يُراد به الهلاك، مثل *وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ*، *وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ*، *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *، وقال ابن عاشور: هنا كلمة ويل تستعمل للتعجب المشوب بالزجر، وهنا لم يدعو عليهم بالهلاك، لأنهم بمقام الموعظة الذي يناسبه لين الخطاب، لذلك قالوا: ويلكم، أي نحن نتعجب من أمركم، *وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا*، أي عليكم بتحصيل ثواب الله ، لأن الثروة التي تتحسرون عليها قد لا تصلون لها، ولكن هذا الكلام لا يفهمه إلا الرجال أصحاب العقول الراجحة، فقالوا: *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا*.

هنا ربنا عز وجل شاء بحكمته وفي هذا الموقف أن يُعجِّل العقوبة لقارون، ليكون درساً بليغاً وعبرة عظيمة لمن يأخذه الصلف والغرور بماله وثروته، لقد شاء الله أن يُعجل العقوبة، لأن الله في كثير من الأحيان لا يعجل العقوبة، لأن الدنيا ليست دار الجزاء، وإنما في الآخرة يتم الحساب، قال تعالى:
*وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ*
فالأجور والجزاء والعذاب والحساب يوم القيامة، الدنيا دار عمل فقط، لكن ربنا سبحانه وتعالى ذكر في القرآن في مواطن عدة بأنه قد يعجل العقوبة حباً بعباده، ليصحو الغافل وينتبه الشارد ويستقيم المنحرف، ويعود السفيه إلى رشده، فالله هنا في هذه الحالة قد عجل العقوبة لقارون، فقال تعالى:
*فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ*
فالخدم والحشم وجميع من حوله ما استطاعوا أن يُنقذوه، حتى ولو حاولوا إنقاذه لما استطاعوا لأنه لن يكون من المنتصرين.
يقول العلماء: أن هذا الخسف به وبداره كان خسفاً خارقاً للعادة لأنه لم يتناول سوى قارون وداره، وهذا كان معجزة لسيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

الآن، الذين قالوا: *يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتيَ قَارُونُ* وانبهروا بما يملك، أصبحت عيونهم شاخصة ومدهوشة بما جرى، قال تعالى:
*وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ*
استفاقوا بعد هذا المشهد الرهيب، فبعدما كانت عيونهم عيون الانبهار والإعجاب، أصبحت عيونهم عيون الدهشة والاستغراب، أين قارون؟، أين كنوزه؟، أين داره؟، لقد اختفى كل شيء في لحظة واحدة، حتى قالوا: الحمد لله الذي لم يُعطنا مثلما أعطي قارون، الحمد لله الذي لم يستجب لأهوائنا وأمنياتنا، ولم نعط مثل ما أوتي قارون، لكان مصيرنا مثل مصيره ولخسف الله بنا الأرض كما خسف به، ولذلك كان تعجيل العقوبة ليصحو هؤلاء الغافلون ويستيقظوا من غفلة المال.
إذن ربنا أعطانا خلاصة بعد هذه القصة، جاء تعقيب عظيم رائع جداً يجب ألا ننساه، قال تعالى:
*تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ*
لقد أشار إلى الدار الآخرة ب(تلك) حتى ينبهنا إلى الدار الباقية التي جعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، للمتقين، قال العلماء: *علواً* : *تكبراً عن الحق وتكبراً عن الخلق* ، وهذا الشرح هو نفس تعريف النبي ﷺ للكبر: *بطر الحق وغمط الناس* ، وهذا الذي كان عليه قارون، تكبر عن الحق عند وعظه من حوله فرفض النصح، وتكبر عليهم عندما خرج عليهم في زينته، وقال علماء التفسير في معنى الفساد كما قال ابن كثير وغيره: هو جمع المال بغير حق، دون أن يعرف هل هذا المال أم حرام، ثم قال الله تعالى قاعدة من أروع وأجمل القواعد، قاعدة يجب أن لا تغطيها ولا تحجبها مغريات الدنيا وزخارفها، وهي لمن يريد نجاة نفسه ويريد الدار الآخرة، القاعدة: *وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* ، أي العاقبة الطيبة الحسنة هي للمتقين المتواضعين الخاشعين المخبتين، الذين إذا آتاهم الله المال والثروات ابتغوا به الدار الآخرة وأحسنوا كما أحسن الله إليهم.

وهذه الآية فيها معنى عظيم: *تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ*، أي لا يريد التعاظم والرفعة، لكن لو أن الله تعالى آتاه المال والمنصب ولكن هو لا يريد التعالي ولا يريد التكبر والتعاظم فلا تشمله تلك الآية، فالله سبحانه وتعالى قال: لا يريدون، ولم يقل: لا يعلون، فقد يعطيك الله منصباً وجاهاً ومركزاً رفيعاً ومالاً وثروة، فإذا سخرتها في مرضاة الله تعالى، ولم تبطر بها ، ولم تطغَ بالمنصب ولا بالمال، فحينئذٍ تكون من المتقين، الذين وصفهم الله تعالى بقوله:
*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ* فالمتقون قد يكونون أصحاب أموال وأثرياء، ولكن يسخِّرون هذا للدار الآخرة، ويحسنون كما أحسن الله إليهم.

وسنتحدث عن المخاطر الأخرى للمتكبر بسبب الغنى والمال في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.

*اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم*
2024/06/24 20:19:54
Back to Top
HTML Embed Code: